فلسفة الرياضيات
دردشة فلسفية فى علم الرياضيات
اوراق فلسفية متناثرة فى دروس الرياضيات ( منقولة من منتديات تعليمية شتى ) .
معيار الحقيقة في الرياضيات - هل يكمن في البداهة والوضوح ؟
المقدمة ( طرح المشكلة ) :
توصف المعرفة الرياضية بالصناعة الصحيحة واليقينية في منطلقاتها ونتائجها ، لكن التساؤل عن معيار اليقين في الرياضيات كشف انه ليس معيارا واحدا في الرياضيات الاقليدية والرياضيات المعاصرة ، ذلك ان الرياضيات الاقليدية تعتقد جازمة ببداهة ووضوح مبادئها وترى فيها النموذج الوحيد في الصدق المطلق ، اما الرياضى المعاصر فلا تهمه المباديء ذاتها لأنها تشكل مقدمات في النسق الرياضي ، بقدر ما يهمه النسق الرياضي في مجمله أي أن عدم تناقض المقدمات مع النتائج هو معيار اليقين في الرياضيات . وفي ذلك نطرح السؤال التالى :
هل معيار اليقين في الرياضيات يتمثل في بداهة ووضوح مبادئها ام يتمثل في اتساق نتائجها مع مقدماتها؟
الاطروحة الاولى ( معيار اليقين في الرياضيات يتمثل في بداهة ووضوح مبادئها )
أسست الرياضيات الكلاسيكية تاريخيا قبل عصر النهضة بقرون عدديدة قبل الميلاد على يد فيلسوف ورياضي يوناني مشهور اسمه اقليدس (306ق.م/253ق.م)، اذ سيطرت رياضياته الكلاسيكية على العقل البشري حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، حتى ظن العلماء انها الرياضيات الوحيدة التي تمتاز نتائجها بالصحة والمطلقية.
اعتمدت الرياضيات الكلاسيكية على مجموعة من المباديء او المنطلقات التي لا يمكن للرياضى التراجع في البرهنة عليها الى ما لا نهاية ، فهي قضايا اولية وبدائية لا يمكن استخلاصها من غيرها ، وهي مباديء لاتحتاج الى برهان على صحتها لانها واضحة بذاتها من جهة ولانها ضرورية لقيام المعرفة الرياضية من جهة اخرى ، يستخدمها الرياضي في حل كل قضاياه الرياضية المختلفة، فما هي هذه المبادئ ؟
التعريفات الرياضية definitions mathematiquales
هى اولى القضايا التى يلجأ اليها الرياضى من اجل بناء معنى رياضى وإعطائه تمييزا يختلف عن غيره من المعانى الرياضية الاخرى ، ومن أهم التعريفات الاقليدية الرياضية ، نجد تعريف المثلث بانه شكل هندسى له ثلاثة اضلاع متقاطعة مثنى مثنى مجموع زواياه تساوى 180 درجة . والنقطة هي شكل هندسي ليس لها ابعاد ، او هي حاصل التقاء خطين . والخط المستقيم هو امتداد بدون عرض .
البديهيات les axiomes
هى قضايا واضحة بذاتها ، صحيحة وصادقة بذاتها لاتحتاج الى دليل على صحتها برأى الكلاسيكيين ، أى لايمكن للعقل اثباتها أي تفرض نفسها على العقل بوضوحها لانها تستند الى تماسك مباديء العقل مع ذاته ، فهي قضايا قبلية نشأت في العقل قبل التجربة الحسية ، وهى قضايا حدسية يدركها العقل مباشرة دون برهان او إستدلال ، كما انها قضايا تحليلية موضوعها لايضيف علما جديدا الى محمولها ، ومنها بديهيات اقليدس التى تقول :
ان الكل اكبر من الجزء والجزء اصغر من الكل .
الكميتان المساويتان لكمية ثالثة متساويتان .
وبين نقطتين لايمكن رسم الا مستقيما واحدا .
وأذا أضيفت كميات متساوية الى اخرى متساوية تكون النتائج متساوية .
المصادرات les postulats
تسمى احيانا بالاوليات واحيانا بالموضوعات . واحيانا بالمسلمات لأن الرياضى هو الذى يضعها فهى اذن قضايا لا نستطيع البرهنة على صحتها وليست واضحة بذاتها ، أى فيها تسليم بالعجز ، ولذلك نلجأ الى التسليم بصحتها . ومن مصادرات اقليدس نجد :
مثلا من نقطة خارج مستقيم لانستطيع رسم الا مستقيما واحدا مواز للمستقيم الاول .
المستقيمان المتوازيان مهما امتدا لايلتقيان .
المكان سطح مستوي درجة انحنائه يساوي صفر وله ثلاثة ابعاد هي الطول والعرض والارتفاع .
مجموع زوايا المثلث تساوى قائمتين .
وتسمى هذه المبادئ فى مجموعها بالمبادئ الرياضية الكلاسيكية او بمبادئ النسق الاكسيوماتيكى نسبة الى كلمة اكسيوم والتى تعنى فى العربية البديهية . وهو نسق قائم على التمييز بين هذه المبادىء الثلاثة .
مناقشة ( نقد الاطروحة ) :
ان الهندسة الكلاسيكية التي كانت حتى القرن 19 مأخوذة كحقيقة رياضية مطلقة ، أصبحت تظهر كحالة خاصة من حالات الهندسة وما كان ثابتا ومطلقا اصبح متغيرا ونسبيا ، وفي هذا المعنى يقول بوليغان bouligand (( ان كثرة الانظمة في الهندسة لدليل على ان الرياضيات ليس فيها حقائق مطلقة.)). فماهي هذه الانظمة التي نزعت من الرياضيات الكلاسيكية صفة اليقين المطلق ؟
الاطروحة الثانية ( معيار اليقين في الرياضيات يتمثل في اتساق النتائج مع المقدمات ) :
لقد حاول الرياضيون في مختلف العصور ان يناقشوا مبادئ الهندسة الاقليدية ، ولم يتمكنوا منها الا في العصر الحديث ، وهي أطروحة ترى ان معيار الصدق في الرياضيات لا يتمثل في وضوح المبادئ وبداهتها ولكن يتمثل في مدى انسجام وتسلسل منطقي بين الافتراضات او المنطلقات وبين النتائج المترتبة عنها ، وهي اطروحة حديثة تتعرض بالنقد والتشكيك في مباديء ونتائج الرياضيات الكلاسيكية . اطروحة مثلها الفرنسي روبير بلانشي والروسي لوبا تشيفسكي والالماني ريمان . فما هي هذه الانتقادات والشكوك ؟
انتقد الفرنسى روبير بلانشى فى كتابه ( الاكسيوماتيكا ) المبادىء الثلاثة للرياضيات الكلاسيكية :
* التعريفات الاقليدية ووصفها بانها تعريفات لغوية لاعلاقة لها بالحقيقة الرياضية فهى تعريفات نجدها فى المعاجم اللغوية فهى بذلك لاتهم الا اللغة .
* هى تعرفات وصفية حسية تصف المكان الهندسى كما هو موجود حسيا فى ارض الواقع وهى بذلك تعريفات تشبه الى حد بعيد التعريفات فى العلوم الطبيعية .
* هى تعريفات لانستطيع الحكم عليها بانها صحيحة او خاطئة فاذا اعتبرناها نظرية وجب البرهنة عليها ، واذا لم نقدر على ذلك وجب اعتبارها مصادرة ، وهذا معناه ان التعريفات الاقليدية فى حقيقتها عبارة عن مصادرات .
* انتقد بلانشى ايضا بديهية اقليدس ( الكل اكبر من الجزء ) معتبرا انها بديهية خاطئة وليست صحيحة ، اذ ثبت انها صحيحة فقط فى المجموعات المنتهية .
* انتقد بلانشى البديهية ايضا معتبرا انها صحيحة وصادقة ولاتحتاج الى برهان فى المنطق القديم لكن فى الرياضيات المعاصرة البديهيات قضايا يجب البرهنة على صحتها واذا لم نتمكن من ذلك وجب اعتبارها مسلمة أى مصادرة .
* اما المصادرات فباعتبارها مسلمات او موضوعات لانستطيع البرهنة عليها فففيها تسليم بالعجز ، من هنا يعتبربلانشى ان أنسب مبدأ للرياضيات هو مبدأ المصادرات أى المسلمات أو الفرضيات .
* من هنا فإن هندسة إقليدس لم تعد توصف بالكمال المطلق ، ولا تمثل اليقين الفكري الذي لايمكن نقضه ، لقد اصبحت واحدة من عدد غير محدود من الهندسات الممكنة التي لكل منها مسلماتها الخاصة بها .
* من هذا المنطلق ظهرت في القرن التاسع عشر أفكاراً رياضية هندسية جديدة تختلف عن رياضيات إقليدس وسميت بنظرية النسق الاكسيوماتيكي أوبالهندسات اللا إقليدية ، وتجلى ذلك بوضوح من خلال اعمال العالمين الرياضيين لوباتشيفسكي الروسي وريمان الالماني .
في سنة 1830م شكك العالم الرياضى الروسى لوباتشيفسكى lobatchevsky 1793-1857م ) فى مصادرات إقليدس السابق ذكرها وتمكن من الإهتداء الى الأساس الذى بنيت عليه ، وهو المكان الحسى المستوى ، وهكذا تصور مكانا اخر يختلف عنه وهو المكان المقعراى الكرة من الداخل ، وفى هذه الحالة تمكن من الحصول على هندسة تختلف عن هندسة اقليدس ، أى من خلال هذا المكان أعلن لوباتشيفسكى انه بامكاننا ان نرسم متوازيات كثيرة من نقطة خارج مستقيم ، والمثلث تصير مجموع زواياه اقل من 180 درجة .
وفي سنة 1854م شكك الالمانى ريمان 1826-1866م riemane هو الاخر فى مصادرات اقليدس وتمكن من نقضها على أساس اخر ، فتصور المكان محدودبا أى الكرة من الخارج وأستنتج بناءا على ذلك هندسة جديدة ترى انه لا يمكن رسم أى مواز من نقطة خارج مستقيم ، وكل مستقيم منتهى لانه دائرى وجميع المستقيمات تتقاطع فى نقطتين فقط والمثلث مجموع زواياه اكثر من 180درجة .
مناقشة ( نقد الاطروحة ) :
اذا كانت الرياضيات المعاصرة قد اسقطت فكرة البداهة والوضوح والكمال واليقين والمطلقية في الرياضيات الكلاسيكية ، واذا كان الرياضي المعاصر حر في اختيار مقدمات برهانه فهذا لا يعني ان يتعسف في اختياره ووضعها بل يجب ان يخضع في وضعها الى شروط منطقية صارمة تنسجم فيها هذه المقدمات مع نتائجها انسجاما منطقيا ضروريا .
التركيب بين الاطروحتين :
من خلال ما سبق عرضه نلاحظ ان تعدد الانساق الرياضية لا يقضي على يقين كل واحد منها ، فكل هندسة صادقة صدقا نسقيا اذا اخذت داخل النسق الذي تنتمي اليه لاخارجه وفي هذا المعنى يقول الفرنسي روبير بلانشي (( أما بالنسبة للانساق في حد ذاتها فلم يعد الامر يتعلق بصحتها او بفسادها اللهم الا بالمعنى المنطقي للانسجام او التناقض الداخلي ، والمباديء التي تحكمها ليست سوى فرضيات بالمعنى الرياضي لهذا المصطلح )) .
الخاتمة ( حل المشكلة ) :
من خلال ما سبق نستنتج ما يلي :
* إن الرياضيات الاقليدية لم تعد توصف بالكمال والمطلقية ، ولم تعد تمثل اليقين الرياضي الوحيد الذي لا يمكن نقضه ، بل غدت واحدة من عدد غير محدود من الهندسات الممكنة التي لكل منها مسلماتها الخاصة بها . ولذلك فأن تعدد الانساق الرياضية هو دليل على خصوبة الفكر في المجال الرياضي وليس التعدد عيبا ينقص من قيمتها او يقينها .
* كما ان المعرفة الرياضية لا تكتسب الصفة اليقينية المطلقة الا في سياق منطلقاتها ونتائجها ، وهذه الصفة تجعل من حقائقها الرياضية حقائق نسقية .
* كما ان البرهنة في الرياضيات انطلقت من منطق استنتاجي يعتقد في صدق مبادئه ومقدماته الى منطق فرضي يفترض صدق مبادئه ومقدماته .
|